3- الصراعات السياسية والاجتماعية:
لقد تميزت
هذه الحقبة من تاريخ المغرب بصراعات، عمقها طبقي، اتخذت أشكالا مختلفة، كما همت مختلف أوجه الحياة العامة، و تميزت بظهور حركات
اجتماعية جديدة (نسائية، أمازيغية…)، وبتقوية المد الأصولي إيديولوجيا وسياسيا. يمكن إبراز أهم الأحداث التي عرفتها البلاد في هذه المرحلة
في النقط الآتية:
أ- الانتفاضات الشعبية:
-انتفاضة يونيو 1981 : والتي جاءت إثر
الإضراب العام الذي دعت إليه الكونفدرالية الديمقراطية للشغل. كانت الانتفاضة
عفوية وساهمت فيها الجماهير المحرومة والمهمشة بالأساس (أشباه البروليتاريا
والشباب)، وعمت أهم أحياء الدار البيضاء وفي مقدمتها درب السلطان-الفداء، البرنوصي…ويمكن إرجاع دوافع الانتفاضة إلى تدهور وضعية الجماهير الشعبية، وسخط هذه
الأخيرة على الدولة.
استعمل الحكم مختلف
الوسائل (دبابات، مروحيات…) لإخماد هذه الانتفاضة في بحر من الدم، وقد عقب هذه
الانتفاضة موجة من الاعتقالات والاختطافات والاغتيالات، حيث دفن العشرات من الأبرياء في المقابر الجماعية، ويجهل مصير
العشرات الآخرين. وقد قيل رسميا أن الدولة
مستعدة لقتل الثلثين الفاسدين من أجل حماية الثلث الصالح كما تم نعت الشهداء "بشهداء الكوميرة" من طرف إدريس البصري، وزير الداخلية آن ذاك.
والملاحظ أن هذه الانتفاضة كانت عفوية،
ولم تحاول أية قوة سياسية معارضة، تأطير وتوجيه الجماهير الغاضبة.
- انتفاضة يناير 1984 : إن إعلان الدولة عن
قرارها المتعلق بالزيادة في أثمان بعض المواد الأساسية في إطار ميزانية 1984، كان بمثابة شرارة أشعلت نيران
الغضب، وأيقظت الحقد الدفين تجاه الدولة المخزنية.
تزامنت هذه الانتفاضة مع انعقاد قمة منظمة المؤتمر الإسلامي بالدار البيضاء (يناير 1984) تحت رئاسة الحسن الثاني، والمعروف
أن هذه المنظمة خلقت (في أواخر الستينات) من طرف أتباع الإمبريالية
(مثل السعودية والمغرب) لمواجهة المد الشيوعي وحركات التحرر عبر العالم، ولخلق
لوبيات رجعية داخل حركة عدم الانحياز.
لقد أخضعت الدار البيضاء لحصار أمني خطير، هذا ما جعلها لم تشارك بشكل فعال في تلك الانتفاضة، التي تميزت عن سابقتيها ( مارس65، يونيو81) بكونها أكثر تنظيما وتأطيرا. فقد لعبت مجموعات من المناضلين (الماركسيين، والاتحاديين الذين سينسحبون من
الاتحاد الاشتراكي فيما بعد لتأسيس حزب الطليعة) دورا مهما في توجيه ولو جزئيا غضب
الجماهير (في مراكش، والشمال، وبعض المدن الأخرى كالرباط مثلا).
اتهم الحسن الثاني في خطابه ليلة 23 يناير 1984 منظمة "إلىالإمام"، وأتباع عبد السلام ياسين بالوقوف وراء
الانتفاضة.
تطورت الانتفاضة وبدأت التعبئـة للإضراب العام الدي تقرر شنه يوم الاثنين 24 يناير، إلا أن هذا لم يتحقق لأسباب
ثلاثة:
- السبب الأول: يكمن في كون الحسن الثاني اضطر إلى الإعلان الرسمي عن إلغاء جميع الزيادات، وهذا
هو المطلب الرئيسي للانتفاضة.
- السبب الثاني: يكمن في
القمع الأعمى الذي باشرته أجهزة الحكم مباشرة بعد خطاب الحسن
الثاني، الذي نعت فيه الجماهير المنتفضة
بالأوباش، وذكر سكان الريف بما فعل فيهم خلال انتفاضة 1958-1957 حيث قال " لقد عرفتموني و أنا وليا للعهد فلا يجب أن
تعرفوني و أنا ملكا".
- السبب الثالث، و هو الأهم، يكمن في غياب
أدوات التغيير الثوري و في مقدمتها حزب الطبقة العاملة المؤطر لمختلف الكادحين.
فزيادة على المئات من المواطنين الذين
شملهم القمع المباشر منذ بداية الانتفاضة، فإن أجهزة القمع قامت بحملة واسعة
لاعتقال العشرات من اليساريين الماركسيين اللينينيين بتهمة الانتماء إلى منظمة "إلى الإمام" و من الاتحاديين المغضوب
عليهم من طرف المكتب السياسي و من مناضلي حزب التقدم و الاشتراكية (الرباط و أزرو).
شكلت انتفاضة يناير1984 أول انتفاضة مؤطرة نسبيا من طرف
اليسار المغربي، وحددت لنفسها هدفا واضحا: إلغاء الزيادات في الأثمنة المعلنة من
طرف الدولة.
ومن خلال خطابه، أرغم الحسن الثاني على التراجع عن هذه الزيادة، وقد خاض المعتقلون، خصوصا مجموعة مراكش نضالات مريرة من أجل فرض هويتهم كمعتقلين سياسيين،
مما أدى إلى استشهادات نذكر منهم الرفيقين الدر يدي وبلهوا ري.
وخلال خريف 1985 شن الحكم من جديد حملة قمع عشوائية أدت إلى اعتقال عشرات من مناضلي منظمة"إلى الأمام"، نتج عنها استشهاد
الرفيق أمين التهاني، أحد قيادي المنظمة،
والزج برفاقه في السجون لسنوات عدة، بعد التعذيب داخل "درب مولاي
الشريف" السيئ الذكر، وبعد محاكمة صورية.
- انتفاضة دجنبر 1990 :
نزلت إلى
شوارع فاس الجماهير المحرومة والمهمشة في انتفاضة هائلة، استهدفت رموز
اقتصادية واجتماعية معبرة (فنادق فخمة، مقاولات معروفة...).
تزامنت هذه الانتفاضة العفوية والغير المؤطرة، مع الإضراب العام الذي دعت إليه الكونفدرالية الديمقراطية للشغل والاتحاد
العام للشغالين بالمغرب.
و قد كان رد فعل الحكم شرسا، نتج عنه
ضحايا أبرياء.
شكلت عملية نهب أراضي سهول سايس الغنية، وتفقير
فلاحي المنطقة، و تهجيرهم إلى المدينة، وبلترة حرفيي مدينة فاس...التربة الخصبة
لمختلف التيارات، وردود لأفعال، المنظمة منها والعفوية.
ب- النضال الاقتصادي:
عرفت هذه الفترة عدة نضالات مطلبية (عمالية وبرجوازية صغيرة) من أجل الزيادة في الأجور وتحسين ظروف العمل. و كانت أغلب هذه
النضالات مؤطرة من طرف النقابات:
ك. د. ش، ا. م . ش، ا.ع . ش. م، و قد شملت بالخصوص القطاعات العمومية، إلا أن فعالية هذه النضالات بقيت محدودة
نتيجة التشتت النقابي، و"برقرطة" القيادات التي أصبحت تفتقد إلى رؤية بعيدة المدى تربط النضال الاقتصادي المرحلي
بالتغيير الاستراتيجي، و عدم انصهار الطلائع البروليتاريا في تنظيم سياسي ثوري.
ت- الحركات النوعية
الجديدة:
برزت أو تقوت حركات مناضلة خلال العقدين
الأخيرين، ساهمت وتساهم بشكل فعال في النضال والمقاومة من أجل مجتمع أفضل. و تشكل هده الحركات، في عمق
الواقع، الضمير الحي لمجتمعنا يتوجب الإنصات إليه.
- الحركة
الحقوقية :
شكل ميدان الدفاع عن حقوق الإنسان في شموليتها
وكونيتها، وعن صيانة كرامة المواطنين، وعن عدم الإفلات من العقاب في الجرائم
السياسية، والاقتصادية… أحد ميادين الصراع ضد الدولة المخزنية و مختلف أجهزتها
المتورطة في الجرائم السياسية والاقتصادية... وضد مختلف
الأفراد واللولبيات المسؤولة عن النهب، والسرقة والاختلاس… و قد لعبت الجمعية المغربية لحقوق
الإنسان الدور الطليعي في هذه المعركة، رغم القمع المسلط عليها في كثير من
المناسبات، والضغوطات الممارسة عليها. كما لعب منتدى الحقيقة والإنصاف دورا ايجابيا في تنظيم ضحايا القمع
السياسي، وفي مواجهة سياسة الدولة التعتيمية في هدا الميدان.
يجب التذكير هنا بالدور الطليعي الذي قام به في
هذا الميدان بعض المناضلين (تشكيل أول لجنة حقوقية في المغرب ربيع 1972)، أمثال
عبد الرحمن بن عمرو والشهيد عمر بنجلون وعبد الحميد أمين و عبد الله الحريف و ايت
قدور، كما يجب تسجيل الدور الرائع الذي قامت به عائلات المعتقلين السياسيين و
مختلف الفاعلين المتشبعين بحقوق الإنسان كالاساتدة عبد الرحيم برادة، ومحمد صبري،
و عبد الرحيم الجامعي... في تقوية وتدعيم الحركة الحقوقية داخل مجتمعنا.
- الحركات
النسائية :
من أبشع أوجه
الظلم والاحتقار، هو ما تتميز به وضعية المرأة في مختلف المجالات، زيادة
على ما تتعرض له يوميا من إهانات وتحرشات، وتهميش في اتخاذ القرارات، وإقصاء في مختلف الإطارات…
إن هذه
الوضعية المنافية لأبسط حقوق الإنسان، قد دفعت بالمئات من
المناضلات الديمقراطيات إلى اتخاذ مبادرات متعددة الأشكال لإسماع صوت المرأة المغربية، وسخطها ورفضها للواقع المهين. وهكذا تشكلت عدة جمعيات نسائية، وبدعم من القوى الديمقراطية، وأخذت على عاتقها النضال من
أجل الانعتاق والمساواة، وبدأ يتضح عند الكثير منهن أن انعتاق المرأة المغربية مرهون بتحرر المجتمع، وبالتالي فإن نضالها من أجل فرض حقوقها كامرأة لا يمنعها من المساهمة الفعالة في النضال الشعبي من أجل مجتمع ينعدم فيه
الميز الجنسي والعنصري وتنعدم فيه الطبقات الاجتماعية، أصل مشاكل الإنسانية. إن سن مدونة الأسرة
الجديدة، الذي يعتبر خطوة إلى الإمام، هو نتيجة نضال المرأة المغربية المدعومة من
طرف الديمقراطيين والتقدميين والحقوقيين، رغم أن هذه المدونة لم تستجيب بعد لأهم
مطالب الحركة النسائية ولا للحد الأدنى الديمقراطي الضروري.
- الحركات
الأمازيغية :
إن تجاهل
الأمازيغية كمكون أساسي من مكونات الهوية المغربية، كلغة وكثقافة
(دستوريا، و تعليميا، وإعلاميا، وإداريا...)، يعد جريمة في حق الشعب المغربي، وتحديا واضحا لكل
المعاهدات والمواثيق والإعلانات الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان (أفرادا، وجماعات،
وشعوب).
وقد شكل هذا الواقع المهين السبب الرئيسي
لظهور جمعيات وتيارات تناضل من أجل إعادة الاعتبار للأمازيغية، كلغة وطنية رسمية بجانب اللغة العربية، وكمكون ثقافي وطني أساسي للشعب المغربي. وكباقي الحركات، فإن الحركة الأمازيغية
تبقى غير منسجمة، وتعيش تناقضات بين ما هو تقدمي، الذي يربط هذا النضال
بالنضال العام من أجل مجتمع تحرري حقيقي، وبين ما هو انعزالي يتوهم أن الحل ممكن
في إطار البنية الحالية.
- حركة
المعطلين :
أن يتكون جيش
احتياطي من اليد العاملة، فهذا شيء طبيعي في النظام الرأسمالي منذ سيادته، لكن أن
نجد الآلاف من المعطلين الحاملين للشهادات في بلد كالمغرب المحتاج موضوعيا إلى آلاف
المدرسين لمحاربة الأمية التي تنخر المجتمع، وإلى آلالاف من الأطباء، والمهندسين، والباحثين، وإلى آلاف
المؤطرين، والمساعدين الاجتماعيين، والإداريين الخ… أن نجد إذن هذا النوع من المعطلين، فهذا لا يمكن أن
يقبله المنطق. إن التفسير الوحيد لهذه الظاهرة، هو استقالة الدولة من مسؤولياتها الاجتماعية والاقتصادية، وإفلاس الاقتصاد
المغربي التبعي ألمخزني الذي لم يعد قادرا على توفير الشغل لهؤلاء الشباب ألحاصل على الشهادات العليا في مختلف
التخصصات...
يشكل الحق
في الشغل أحد أبرز حقوق الإنسان، وتنص المعاهدات الدولية المتعلقة بالحقوق
الاجتماعية والاقتصادية، على مسؤولية الدولة في تحقيق هذا الحق.
ومن الملاحظ
أن هذه الظاهرة الجديدة في مجتمعنا، تمس بالأساس بنات وأبناء الجماهير الشعبية. فلنتصور إحباط ثم غضب ثم انتفاضة
هذا الشباب الذي ضحت من اجله عائلته بالكثير، و اجتهد ليلا و نهارا رغم صعوبة الظروف ( السكن،
النقل، الأكل، المراجع، الاكتظاض...) ليجد نفسه، في آخر المطاف، أمام الأبواب
المسدودة التي لا تفتح إلا لأبناء الأغنياء كيفما كان مستواهم التعليمي.
لقد لجأ آلاف المعطلين، وبوعي فائق، إلى تشكيل جمعياتهم و في مقدمتها "الجمعية
الوطنية لحملة الشهادات المعطلين " من أجل إسماع صوتهم والدفاع عن حقهم في الشغل. ورغم رفض الدولة
الاعتراف بالجمعية، فإن هذه الأخيرة فرضت نفسها في الساحة النضالية، وفرضت نفسها
كمحاور لا مفر منه، وهذا بفضل صمود منا ضليها أمام القمع الشرس المسلط عليهم: الاعتقالات والاغتيالات...
ث- النضال السياسي:
لقد عرفت الساحة السياسية المغربية، منذ بداية السبعينات بالخصوص، حركة واسعة من أجل
فرض مكاسب ديمقراطية على طريق مجتمع ديمقراطي حقيقي، وقد تزامنت هذه الحركة مع
النضال العالمي من أجل فرض احترام حقوق الإنسان عبر المعمور.
تمكنت هذه الحركة من فرض إطلاق جل المعتقلين
السياسيين وتوسيع هامش النضال الديمقراطي، وفي مقدمته النضال الحقوقي، وهذا لا
يعني أنه قد وقع تغيير في طبيعة الحكم، أو أن هذا الأخير منح هذا الهامش. إن هذا "الانفتاح" يجد تفسيره في التضحيات الجسيمة التي قدمتها
القوى اليسارية الماركسية-اللينينية والاتحادية، ودعمها المناخ الدولي،
خصوصا وأن الإمبريالية لم تعد محتاجة بشكل كبير للحكم المغربي كدرك في أفريقيا،
بعد انهيار المعسكر الاشتراكي البيروقراطي، وتراجع تأثيره في إفريقيا.
ومنذ
البدايـة، أتضح أن الحركـة الديمقراطية المغربية تعيش تناقضا داخليا بين طرحين:
+ الطرح الأول: يعتمد الكواليس في
الاتصالات مع القصر، والمذكرات الخجولة، ويبعد الضغط بالكفاح الجماهيري،
وهذا هو الأسلوب الذي ناهجته قيادة الكتلة الديمقراطية:
الاتصالات الفوقية مع الحسن الثاني، وتغييب قواعدها في أهم المحطات. إن أسلوب الكتلة الديمقراطية أقرب من التظلم وبعيد كل البعد عن
المطالبة والضغط و الصراع من أجل انتزاع الحقوق، وقد أدى هدا الاختيار إلى تصويت أغلبية مكونات
الكتلة على الدستور ألمخزني المفروض لسنة 1996، وقبول المشاركة
في حكومة "التناوب" ألرجعية في 1998، وقد أدت منظمة العمل ثمنا غاليا لرفضها
تزكية الدستور الممنوح.
+ الطرح الثاني: كان ولا يزال
يعتبر أن الحقوق لا تعطى بل تنتزع، وأن المكاسب الديمقراطية في مختلف المجالات
تبقى مرهونة بموازين القوى، وأن النضال الجماهيري الواعي والمنظم
والضاغط هو الضامن الأساسي لكل تقدم ديمقراطي. وقد تبلور هذا الطرح من خلال ممارسة استراتيجية التطويق: فتح عدة جبهات ضد الحكم اللاديمقراطي
(الحقوقية، النقابية، السياسية، النسائية، الثقافية…)، بهدف إضعاف موقعه، وتقوية خندق الشعب، في أفق تفكيك بنياته المخزنية.
لقد لعب
اليسار بمختلف مكوناته دورا أساسيا في بلورة هذه الاستراتيجية التي تعتمد النضال
الجماهيري الواعي والمنظم سلاحا أساسيا في الصراع من أجل تشييد
الديمقراطية الشعبية على
أنقاض" الديمقراطية الحسنية".
إن هذين
المنظورين يعبران في العمق عن مواقف طبقية مختلفة، فممارسة الكتلة الديمقراطية
تحكمها بالأساس مصالح الطبقات الوسطى التي تسعى إلى تحقيق مكاسب اقتصادية وسياسية
مع الحفاظ على جوهر النظام في اطار "ملكية برلمانية": عدم المس بالمقدسات. ان هذه الطبقات، ورغم تدهور أوضاعها، تخاف من قيادة الكادحين للنضال، لأن الكادحين،
وفي مقدمتهم الطبقة العاملة، يحملون موضوعيا مشروعا بعيد المدى، يخيف الفئات العليا من البرجوازية المتوسطة التي تستفيد من مواقعها داخل
دواليب الدولة (كبار الموظفين، أساتذة جامعيين، أطر تقنية، مدراء المقاولات و المؤسسات
العمومية...) والتي تستفيد من الأوضاع العامة في
البلاد (كبار المحامين، وأطباء القطاع الخاص، ومهندسون…). إن لهذه الفئات المحافظة تأثير هام داخل قيادات الأحزاب الوطنية.
ويعبر الطرح
الثاني في عمقه، عن مطامح الكادحين ومختلف المحرومين والمهمشين.
ج- الإسلام السياسي :
إن تاريخ
الإنسانية قد علمنا، أن كلما تدهورت الظروف المعشية، وكثرت الكوارث الطبيعية، وانتشرت الأمراض الاجتماعية كالأمية، والبطالة، والتسول، والجريمة... و فشلت القيادات في إيجاد الحلول المناسبة…كلما انتشر الفكر
الغيبي، وظهرت طوائف دينية، تقدم للجماهير التائهة مشاريع مجتمعية جديدة - قديمة تعتمد التعصب، والحقد على الآخر، ومناهضة التقدم وتحن لماضي
مشوه.
إن الأوضاع
المزرية التي عاشتها الطبقات الشعبية بشكل عام، والمحرومين والمهمشين بشكل
خاص، قد دفعها إلى البحث عن الحلـول البديلة، لهذا ظهرت موضوعيا خلال
الستينات و السبعينات، التيـارات اليسارية الاتحادية، واليسار
الماركسي-اللينيني كمحاولـة لإيجـاد الحلـول من منظـور الكادحيـن
(البرجوازية الصغيرة عامة، والطبقة العاملة وأشباه البروايتاريا خاصة).إن القمع الوحشي (الاعتقالات، والاختطافات،
والتصفيات الجسدية...) التي تعرضت لها القوى الديمقراطية والتقدمية على أيادي
النظام, إضافة إلى تخاذل البعض، وهرولة البعض الآخر نحو الفتات باسم " القضية
الوطنية، والإجماع الوطني، والمسلسل الديمقراطي..."، قد أدى هذا كله إلى إضعاف
الحركة الجماهيرية بشكل عام، وقوى اليسار بشكل خاص. وقد زاد انهيار أنظمت شرق
أوروبا البيروقراطية الطين بلة.
إن بلترة ملايين
من المغاربة، والزج بالعديد منهم في أحزمة الفقر التي تنعدم فيها أبسط شروط الحياة، قد ساعد على انتشار من جهة، الأمراض الاجتماعية كالاستغلال الجنسي، و التسول ، و ترويج المخدرات ، والسرقة، والجريمة…و على ظهورالتيارات الدينية من جهة ثانية، التي تعتمد في المظهر الوعظ والإرشاد والإحسان، وفي العمق تزرع التعصب، والحقد
ومعادة القيم الإنسانية التقدمية. إن الأرضية والمنطق التي تتبناها التيارات الإسلامية، هي نفس الأرضية و
نفس المنطق التي تتبناها، رغم اختلاف المكان و الزمان، الفاشية و النازية
والصهيونية والحركات اليمينية المتطرفة عبر العالم.
ساهمت الدولة في
انتشار هذا النوع من الفكر ألظلامي الماضوي، بخلفية محاربة القوى التقدمية، وقد
وجدت هذه التيارات الدعم الكافي (ماديا وإعلاميا…) من الإمبريالية والدول الإسلامية
الرجعية بخلفية محاربة المد الشيوعي والتحرري عبر العالم. يجيب التذكير هنا، بالدور المخزي الذي لعبته بعض الأنظمة،
كنظامي المغرب والسعودية، وبأوامر من
الولايات المتحدة الاميريكية، في خلق، وتمويل، وتدريب، وتسليح المنظمات اليمينية المناهضة لحركت التحرر الوطني، وللحركة الشيوعية، وللأنظمة
التقدمية.
إن التناقضات
الطبقية اخترقت كذلك الإسلام السياسي.
فالتنظيمات
السياسية الإسلامية (كالعدالة والتنمية) تعبر في العمق عن مطامح بعض الشرائح
الرجعية التي تحاول تحسين أوضاعها في إطار دولة تيوقراطية، تسود فيها "
القيم الدينية" المبنية على رفض الآخر، وتكن هذه الشرائح عداءا خاصة للفكر الاشتراكي »لأن الله فضل بعضكم على بعض في الرزق«. إن هذه التنظيمات التي تعبر في العمق عن مطامح شرائح
اجتماعية غير متضررة من الوضع الراهن، تستعمل الدين كسلاح سياسي من أجل كسب
الملايين من المحرومين والمهمشين المتضررين الحقيقيين، و هدا كله في إطار الاستراتيجية السياسية التي تخدم كل ما هو رجعي في الحكم المخزني. يمكننا اليوم،
اعتبار حزب "العدالة والتنمية"، وبجانب بعض" الحداثيين "، و
بعض "الديمقراطيين"، إحدى الأدوات التي يستعملها الحكم من اجل ترسيخ
أسسه: فكل هؤلاء متشبثون " بالمقدسات" وبجوهر الدستور كأسمى قانون. إن
ما يجمعهم أكثر مما يفرقهم.
إلا أن
تطور الواقع أعطى نتائج غير منتظرة، فقد وقع في المغرب ما وقع للولايات المتحدة في
أفغانستان.
لقد تسلح
العديد من المهمشين بالأفكار الأصولية والشعارات التي ترفعها الأحزاب
الإسلامية في إطار صراعاتها ضد الفكر الديمقراطي، وتحولوا إلى قوة مدمرة يصعب
التكهن بمستقبلها.
تعبر
الجماعات المتطرفة موضوعيا، على سخط، وإضطراب الفئات الأكثر المهمشة في مجتمعنا.
إن الأمية، والبطالة، والحرمان، والإهانة اليومية التي يتعرض لها ملايين من
المقصيين، والمكدسين في أكواخ من القصدير غير صالحة حتى للحيوانات... تشكل التربة الخصبة لانتشار التطرف و التعصب والكراهية، و الممارسات الإرهابية. يشكل هؤلاء جيشا احتياطيا للحكم من أجل
الاستعراضات خلال المناسبات، و جيشا احتياطيا كذلك لتشكيل مليشيات فاشية ضد
الكادحين عند الحاجة، و جيشا احتياطيا للتيارات السياسية و الفكرية الرجعية في
العمليات الانتخابية أو التصفوية/"الفدائية".
و
السؤال المطروح على القوى اليسارية و التقدمية: ألا يمكن تحويل هذه القوة المدمرة إلى
قوة ايجابية تساهم في الصراع الطبقي من أجل الديمقراطية على طريق الاشتراكية؟
هذا ممكن، إذا تمكنت قوى
التغيير الديمقراطي الجدري، من إقناع هذه القوى الاجتماعية، بأن الطريق الوحيد لحل مشاكلها هو طريق النضال في إطار جبهة
تضم مختلف الطبقات الشعبية، و ذلك من أجل المجتمع الاشتراكي الذي ينعدم
فيه استغلال الإنسان للإنسان.
- يتبع -